خواطر في الكتابة كتبت الشاعرة / فادية كنهوش - مجلة الهرم المصرى الادبية
الدكتورة فادية كنهوش كاتبة وشاعرة من سوريا
كل كتابة هي نداء للقارئ لمتابعة العمل الذي قام به الكاتب. لأن المعنى يكتمل ويأخذ وجوده في عقل وفكر القارى حصرا. ومن هنا جاءت تعددية القراءات والتأويلات التي قد تواكب "نية" او ارادة الكاتب وقد تنحرف عنها الى مسارات جديدة مختلفة عنها تماما.
يعبّر الفيلسوف الألماني كارل كراوس بمهارة عن حالة عدم فعالية "واضحة" أحيانا للغة ، يقول:"غالبا ما أكون قريبا من حائط اللغة فلا ألتقط إلا صداها. وغالبا ما يرتطم رأسي بهذا الحائط، و عندها لا أستطيع أن أذهب الى الأبعد. حينها أنسحب ورأسي مدمّى وبي رغبة بالذهاب الى البعيد .1995" الذهاب الى البعيد قد يكون الفهم العميق وقد يكون التعبير عن عمق الفكرة...
ظاهرة عجز اللغة، عند الكثيرين ،عن خدمة الفكرة أمر ورارد جدا وهو أمر مؤلم لمن يعي ذلك. ويبقى الحلم ، للفلاسفة خصوصا، ادراك حقيقة العالم الكائن خلف الكلمات بمساعدة اللغة وحتى رغما عنها...ويصدف أن يعمل الكتاب والشعراء، خاصة الجيل الحديث ، الى إرغامها أحيانا على "سلوك" خاص جدا ظنا منهم أنهم يكرهونها على التعبير المنشود منهم. وقد يؤدي هذا "الاغتصاب " الى محظورات منها اصطناع تزاوج غير مألوف بين الكلمات من دون الأخذ بالاعتبار قابلية الحقول الدلالية وسماحها بهذا التزاوج ولو من خلال سمات دلالية رمزية مخفية... ومنها عجز العبارة على تأدية مهمتها الأساسية وهي إيصال معنى ما....ومنها أحيانا إدخال قصري لمفردات جنسية لا مبرر لها قد تبلغ حد "الجرأة المبتذلة". فهل لاستخدام اللغة "أخلاقيات" معينة أعني بذلك قواعد تحكم سلوك وغايات الإنسان الكاتب دون ان ينتقص ذلك من " حريته"؟
أهم ما قيل بهذا الشأن كان في مقالة سارتر (1948): "ما هو الادب؟" يجيب فيها عن ثلاث اسئلة :ما هي الكتابة؟ لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ يقول فيها :"لا نكتب للعبيد . إن فن النثر مترابط مع نظام واحد هو الديمقراطية. عندما يكون النثر في خطر كذلك تكون الديمقراطية.......الأدب يضعك في معركة، الكتابة هي البحث عن الحرية، وعندما تبدأ الكتابة ،بخاطرك او رغما عنك، فأنت ملتزم". والسؤال هنا ملتزم بماذا؟ نضال سياسي؟ اجتماعي؟ قد يكون....
ولكنني أتساءل أليس هناك التزام أخلاقي نحو من نكتب لهم؟ تتعلق الإجابة بالسؤال الذي يفرض نفسه :لمن نكتب؟ يصبح السؤال متعدد الإجابات عندما يتعلق بأيامنا هذه بالمنصة الأوسع انتشارا ، منصة الفيسبوك الحالية. ومع تعدد شرائح القراء، يصبح الالتزام أشد وأدق. نثرا أو شعرا، تصبح الكلمة هي المربية والواعظة، هي المحررة و المضللة، هي الخادشة للمشاعر والحياء...هي...هي السيف والوردة والغيمة والموسيقى....
والملفت هو تمييز سارتر للشعر و الشعراء فيقول :"الشعراء هم أناس رفضوا استخدام اللغة" . برأي سارتر ان الشعر يستعين بالكلمات كالكتابة العادية ولكنه" لا يستخدمها مثلها بل يخدمها". ربما يقصد ان الشاعر يخدم الكلمة جماليا...نعم. و هذا واضح في الكثير من نماذج الشعر الحقيقي الراقي الذي يجري بعذوبة ونقاء جداول الربيع...يترك اثره الطويل الأمد على نفسية القارئ. ولكن الحقيقة الآن ليست بهذه الشاعرية. فقد طالعنا مستوى من الشعر الذي يريد أن يجبر الكلمة على الإدهاش. الدهشة المصطنعة كان يضعك على سكة القطار ثم يقول لك ها هو القطار يطير في السماء...او كان يحشر المفردات والموضوعات التي تتجرأ على الحياء العام كأن تتحدث امرأة عن ما يتجرأ القليل من الرجال عن الحديث عنه والإشارة اليه بمفردات فجة بذريعة تحرر المرأة والواقعية...وكأن القصيدة هي المكان المفضل "للفضيحة" تطبيقا ل"يحق للشاعر ما لا يحق لغيره" ليس في كسر الأوزان والتفاعلات وأنما بكسر قواعد التواصل الاجتماعي. طبعا انا لا انكر على الكاتب عموما والشاعر خصوصا حقه في الفرادة في التعبير وهذا هو لب الشعر.. ولكن هل ننسى ان القصيدة لطالما كانت هي بوتقة لقاء، او لقاءات مع الآخرين؟ فإن فشلت في هذا اللقاء (المتعدد من حيث تعدد القراءات)فشلت في أن تكون قصيدة. يحضرني هنا تعليق ل(Mandelstam 1923) ذكره (Henri Meschonic) في كتابه الرائع "حالات الشعر1985" :"الشعر صراع دائم". نعم وهي جملة تحمل شجونا كثيرة. وأقول الشعر حلبة لصراعات كثيرة...إحداها والأكثر صعوبة للضبط هي صراع الشاعر مع ذاته... مع تقنياته...مع ثقافته..ومع أخلاقياته وقيمه. وهنا تكمن صعوبة الكتابة عموما والشعر خصوصا. هذا الصراع يعري العلاقة المتبادلة بين "ما تقوله وكيف تقوله" وبين "ما تعيشه" .
حتما هناك عامل "تقني" مهم في نجاح الكتابة..بسببه نفهم ما طرحه الكاتب او لا نفهم، يحصد الكاتب ما يريد او لا. ولكن هذا لا يعني ان التقنية هي ما يلخّص فعل الكتابة. واذا كانت التقنية تعطي "الشرعية" لما يُكتب، فقد يحصل أحيانا تجويف في التقنية وذلك كفيل أن يسلب تلك الكتابة كل "أخلاقية" التواصل. حتى ولو اعتبرناها أخلاقية "مخفية".
لا يخفى على المهتمين بشؤون اللغة أحدى خصائصها ألا وهي مقدرتها على "التلاعب" بمشاعر القارئ وذلك عدا مهمة الإقناع المكلفة بها أيضا. فبحسب الحالة أو "الحاجة النفسية" والتي غالبا ما تكون مكبوتة في لاوعي القارئ، يمكن للغة كسب تجاوب القارئ بالرغم من ابتذالها وفي ذلك إساءة وتخريب للذوق السليم.
اذا اعترفنا ان الكتابة بكل انواعها هي حاجة للتواصل يبقى موقف الشاعر الأكثر حساسية لأنه يتواصل مع الآخرين بمادة هي "مشاعره وحياته الشخصية ومواقفه في الحياة" حتى ولو كان ما يكتبه لأنثى واحدة معينة او ان تكتب المرأة لرجل واحد معين. فهل هناك سبب أولى لاحترام أخلاقيات التواصل اكثر من ذلك. يبقى هذا رأيي الشخصي وأنا مجرد هاوية للكتابة..لست من اهل الاختصاص ولكنني قارئة نهمة
تعليقات
إرسال تعليق