من مظاهر الاعجاز القرآني/كتب / عبد المقصود عرف السعداوي

من مظاهر الاعجاز القرآني




كتب / عبد المقصود عرف السعداوي

باحث في البلاغة والنقد

مما يدعو للتأمل وإطالة النظر والوقوف طويلاً طويلاً الإعجاز التصويري التعبيري الحسي القصصي:

فالقصة في القرآن الكريم هي وسيلة من وسائل التعبير التصويري لتحقيق أغراض دينية, وهي لاشك مهمة القرآن الكريم, وهو تعبير تصويري لأحداث يوم القيامة والجنة والنار وغيرها من عوالم الغيب, والتعبير عن القصص الحقيقية, وعن الأمثال بصورة حسية لا تُضارَع ولا تبارى, فهو تصوير إعجازي, يعجز البشر عن الإتيان بمثله, ففي قوله تعالى: ﴿قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَار قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّار ِوَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُإِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ ([i]), يصورالله تعالى يوم القيامة بمشهد عظيم, وكيف يكون هول ذلك اليوم على المجرمين حينما يدخلون النار على شكل أفواجٍ, وهؤلاء هم أشد الخلق على الخالق معصية بارتكابهم المحرمات, ثم يأتي من بعد أولئك فوج آخر من الناس أقل فجوراَ وكفرا, ثم تتابع الأفواج. فيقص الله تعالى الحوارية عن لسان تلك الأفواج, فيقول الفوج الأول للفوج الثاني وهو في حالة الدخول, "أن لا مرحباً بكم", فيكون رد الفوج الثاني على الأول بقولهم: "بل أنتم لا مرحبا بكم", لكون أن سبب دخولنا النار هو انتم وما قدمتموه لنا, وفي قوله تعلى: "إن ذلك لحق تخاصم أهل النار" حكاية لما صوّر من تخاصمهم وبيان أن تخاصم أهل النار ثابت واقع لا ريب فيه وهو ظهور ما استقر في نفوسهم في الدنيا من ملكة التنازع والتشاجر([ii]). ثم يتتابع التعبير التصويري ليرسم حال هذه الأفواج وما يصيبها من هلع وهول وحيرة في أنهم يبحثون عن أشخاص كانوا يظنون أن مصيبهم ما أصابهم ومن الداخلين في النار, ثم يتبين لهم أن هؤلاء ليسوا من أصحاب النار بل هم من أصحاب الجنة.

أيضاً هنالك الإعجاز التعبيري التصويري الايقاعي الذي يتمثل ذلك بالإيقاع والفواصل في الآيات وخواتيمها, وهو من إعجاز القرآن الكريم الإيقاعي, الذي يخص التصوير الفني اللغوي, وتمثله الفاصلة أو ما يسمى بالقافية ذات السمات الخاصة في الخطاب الإلهي كما في قوله تعالى:﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهَْ يا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ﴾ ([iii]), إذ تتجلى عظمة الله في كل حرف وفي كل آية, فسبحانه الله العظيم, حيث يشعر المتأمل في هذه الآيات بجمال القرآن الكريم ومدى إعجازه, فبالنظر إلى النتاج البشري وخاصة ما يقوله الشعراء فأنهم في بعض الأحيان يأتون بكلمات لضبط الوزن في البيت الشعري وضبط تقفيته, ولكن مع ما لها من القوة التعبيرية لا يمكن أن ترسم بكلماتها هذه الصور وتجسد هذه المعاني, فكل كلمة في القرآن الكريم قد وضعت في مكانها وكل حرف له معنى وله هدف, كيف لا؟ وهو الكلام الصادر من الذات الإلهية, وقد عجز العرب وهم أرباب الفصاحة والبيان على أن يأتوا ولو بسورة من مثله.

ففي هذه الآيات الكريمات صورة فنية رائعة ممتدة الأبعاد فسيحة الأركان مترامية الأطراف متعددة الظلال والألوان, تجمع في إطار واحد أحداثاً قوية مثيرة تصل مابين آخر أيام الدنيا وأول أيام الآخرة, إذ تبدأ الآيات القرآنية بالنفخ بالصور ثم يرسم الله الصورة الثانية بحمل الجبال ثم دكها دكة واحدة بحيث تكون ذرات متناثرة, ثم تأتي الصورة الثالثة لترسم تشقق السماوات وتصدعها, ووقوف الملائكة على أطراف السماء ونواحيها, وتتوالى الصور الواحدة تلو الأخرى لتشكل لوحة فنية رائعة يرسمها الجليل عزّت آلاؤه بنصب الموازين لعرض الخلائق للحساب, فسبحان الذي أنزل القرآن وجعل لكل حرف منه معنى وحدث, ويقف المتأمل في هذه الصور التي جلّ راسمها أمام مشاهد هذا التصوير القصصي المعجز, من مشهد الانقلاب الهائل المدمر، والذي تتحول فيه الصورة بين لحظة وأخرى من النقيض إلى نقيضه. مما يجعل المتدبر يمتلكه الشعور بالشدة والسرعة والحسم، الذي لا مجال فيه لتكرار الحدث الواحد، وهذا ما يوضحه قوله تعالى:" فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ". وفي مشهد تصويري إعجازي آخر يتجسد فيه التمييز بين فريقين: فريق الجنة وفريق النار، وتحديد مصير كل منهما، في هذا المشهد يسود جو مفعم بالسعادة والبهجة في جانب الفريق الأول، ويسود جوٌ ملبد بالحسرة والندامة في جانب الفريق الآخر، يتضح ذلك في قوله تعالى: "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهَْ يا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ". ففي هذا الجانب يبدو التصوير حافلا بالسعادة، مفعماً بالبهجة والحبور، حتى لتكاد تطوف آفاق العالمين لتعلن عن نفسها: "هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ, إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ, فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ, فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ",  وفي الجانب المقابل نرى الحسرة والندامة وأمارات الحزن بادية في قوله تعالى:"يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهَْ يا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ". ومن مشهد آخر فيبدو فيه تصوير العقاب مصحوبًا بأمور أشد وقعًا على النفس، وأكبر وخزا وإيلامًا في الضمير من العذاب ذاته، إذ يسود هذا المشهد جو من العنف والشدة والغلظة، نجد ذلك واضحًا في قوله تعالى: "خُذُوهُ فَغُلُّوهُ, ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه, ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ, إِنّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ, وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ, فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ, وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ, لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُون", ثم أن المدود الواردة في الآيات السابقة تؤدي مهمة تجسد صورة لقوى الكون كلها في حالة سباق مع الزمن لتنفيذ الأمر الإلهي الصادر بشأن "من أوتي كتابه بشماله" تريد أن تجتثه لتسوقه سوقًا إلى المآل المحتوم الذي لا محيص عنه. وهكذا جسدت هذه الآيات بما فيها من إيقاعات وتعبيرات تصويرا إعجازياً يبعث في النفس الإنسانية ما يريده من المعاني صورا حية، ما لا قِبل لبشرٍ بالإتيان بمثله. وبذلك يتجلى إن القرآن يرسم صورا ويعرض مشاهد, يتوافر لها أدق مظاهر التناسق الفني في ماء الصورة, وجو المشهد, وتقسيم الأجزاء, وتوزيعها في الرقعة المعروضةعلى شكل معجز, ينبض بالحياة, ولذا يمكن لكل مفسر أن يفيد منها فهما بحسب طاقته وثقافته ومقتضيات عصر, بما لا يخل بالهدف الرئيس للآية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

على درب الحياة -الهرم المصرى نيوز

======== قصيده =======

أراك بعيوني كتبت الشاعرة / أسماء الزغبى - مجلة الاهرام الادبية نيوز