المفارقة التصويرية في القرآن الكريم/كتب عبد المقصود عارف السعداوي

المفارقة التصويرية في القرآن الكريم




كتب عبد المقصود عارف السعداوي 

على كثرة الدراسات البلاغية التي تناولَتْ النص القرآني الكريم وما فيه من أوجه الإعجاز البلاغية واللغوية؛ إلا أنه مازالت لآلئ هذا النص القرآني الكامنة تنتظر من يكسر صدفاتها ليتلألأ جمال إبداعها، كما تترقب أسراره الدفينة من يفتح خزائنها لتبوح بعظمة بيانها، ’’مما ينطق بأن هذا المدد العلمي المتتابع إنما هو في ذاته أثر من آثار إعجاز القرآن الكريم ، وأن إعجاز القرآن يأتي من لفظه ونظمه، ويتعلق ببنية القرآن اللغوية ذاتها، لا ينفك عنها، متجاوزًا بذلك قيود الزمان وحدود المكان.

ومن السمات الفنية المعاصرة التي تبرز القيم الجمالية للنص الإبداعي وما يحمله من معاني؛ أسلوب المفارقة التصويرية، وهي ’’فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان ينبغي أن تتفق وتتماثل .

يستخدم المبدعون تكنيك المفارقة التصويرية كتكنيك فني لإبراز التناقض بين الطرفين المتقابلين شريطة أن يحمل هذا التناقض رصيدًا نفسيًّا ووجدانيًّا، مما شأنه أن يعكس هذه المتناقضات بعضها على بعض فتزداد قوة في التأثير، وعمقا في الوجدان، ”وتأتي المفارقة التصويرية- دائماً- تكنيكاً مهماً وفارقاً، إذا ما اقترنت- آليةً- بالنصوص المتناصَّة، وهي تحمل خطابات متباينة، تُحْدِثُ تغايرًا وربما فداحةً، بين النصوص المتعالقة والمتداخلة تناصًّا، بما يفجِّر شعرياتٍ؛ بعضها في نسقٍ ظاهر، وبعضها الآخر- وهو الأقدر- في نسق مضمر قد ألمح إلى ذلك التكنيك الأستاذ الدكتور " علي عشري زايد أستاذ البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم في كتابه  الفريد ( عن بناء القصيدة العربية الحديثة  )

ولقد تميز القرآن الكريم بتوظيف المفارقة التصويرية توظيفا فنيا بحيث يخدم المعنى، حتى صارت بعض نماذج المفارقة هذه مضربًا للمثل يجري على ألسنة الناس، ومن أشهرها قوله تعالى: )أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ( [البقرة : 44].

ففي قوله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ( [المائدة: 59] وفي هذه الآية الكريمة تتجلى المفارقة بين طرفين نقيضين كان من المفترض اقترانهما لا افتراقهما.

الطرف الأول: يمثله النداء بـ (يأهل الكتاب) وما يوحي به من إيمان بالله تعالى وتصديق به وبرسله.

والطرف الآخر: يتمثل في نقمتهم من المسلمين بسبب إيمانهم بالله وتصديقهم برسله وكتبه، والذي يوحي به الاستفهام الإنكاري بـ (هل).’’وَالنَّقْمُ: بسكون القاف وبفتحها، الإنكار على الفعل، وكراهة صدوره وحقد على فاعله، ويكون باللِّسان وبالعمل.

فمن المتبادر إلى الذهن، وما يقبله العقل، أن لا ينقم أهل الكتاب من المؤمنين في دينهم شيئا، ’’فأما الإيمان بالله وما أنزل من قبل فظاهر أنهم رضوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثلهم فيه، وأما الإيمان بما أنزل إلى محمد فكذلك، لأن ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهم أهل الكتاب، ودعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، فما وجه النقم منه وهنا نستدعى نصا آخر يتناص مع هذا النص ألا وهو قوله تعالى: )وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِين َ( [البقرة: 89] بيد أن المفارقة في تلك الآية الأولي تقوم على أسلوب الاستفهام الإنكاري وما يضفيه من تعجب، بينما تعتمد المفارقة في هذه الآية على الأسلوب الخبري، الذي يقرر حقيقة جحودهم للصدق وعنادهم للحق.

و من ثَمَّ يأتي توظيف المفارقة لإقامة الدليل وإثبات الحجة عليهم، مع توبيخهم والتهكم من موقفهم ’’فَإِنَّهُمْ لَوْ أَعْرَضُوا عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ إِعْرَاضًا مُجَرَّدًا عَنِ الْأَدِلَّةِ لَكَانَ فِي إِعْرَاضِهِمْ مَعْذِرَةٌ مَا وَلَكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا وَكَفَرُوا بِالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ وَالَّذِي كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، كما أنهم نقموا وكرهوا من يوافقهم وما يماثلهم.

وجاء توظيف المفارقة التصويرية كدليل دامغ ـ أيضا ـ في قوله سبحانه وتعالى:

)وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ _ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ _ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( [الزخرف: 15 - 17]

فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يقيم الحجة على المشركين عندما يقدم مفارقة تصويرية بين نقيضين لا يجتمعان:

الأول منهما: نسب البنات إلى الله ـ تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

وثانيهما: سواد الوجه والكظم عند إنجابهم الأنثى.

”ومحل الاستدلال أن الإناث مكروهة عندهم فكيف يجعلون لله أبناء إناثا، وهلا جعلوها ذكورا ، والعجب أن يصدر هذا الكلام من العرب الذين بخسوا المرأة حقها، واستضعفوا أمرها، فلو سلَّمْنا جدلا أَنَّ الله اتخذ ولدا فلماذا يختص لذاته البنات دون الذكور، مع العلم بأن البنين أفضل عندكم من البنات؟

 والغاية مِنْ كل هذا إبطال مُعْتَقَدِهِمُ الفاسد وافترائهم الكاسد، بتجهيلهم وتقريعهم، حين يسفّه أحلامهم، ويحقر أفكارهم، فلو كانوا يحسِنون إعمَال الفكر ما جعلوا لله ما يزهدون فيه ويتوارون منه.

وبالإضافة لتوظيف القرآن للمفارقة كبرهان ساطع ودليل قاطع، جاء توظيفها ـ أيضا ـ للتهكم  والاستهزاء كما في قوله تعالى: )ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ( [الدخان: 49] بعد قوله تعالى مباشرة: )إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ _ طَعَامُ الْأَثِيمِ _كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ _ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ _ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ _ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ( [الدخان : 43 - 48] إذ من المفترض بداهة أن يوصف الأثيم بالذليل المهان، لا العزيز الكريم، غير أن الوصف بالعزيز الكريم جاء للتهكم بالعلاقة الضدية، وأكّد الإهانة ’’بأسلوب يقوم على مفاجأة السامع بصفة من صفات المدح حيث كان يتوقع صفة ذم ، وهو ما يسمى في تراث البلاغة العربية تأكيد الذم بما يشبه المدح.

ومن الوظائف التي أدتها المفارقة التصويرية في القرآن الكريم التنبيه والتحذير، ففي كقوله تعالى: )كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( [الحشر: 16] تتكشف ملامح المفارقة عندما يتناقض موقف الشيطان حين يوسوس للإنسان بالكفر، ثم ما يلبث أن يتبرأ منه ويتخلى عما أمره به؛ بل يدعي مخافة الله، وهذا يستدعي نصا كريما آخر يتوازى مع هذا النص يظهر الله تعالى فيه حقيقة الشيطان، ويسجل فيه مواقف أهل الضلالة يوم القيامة )وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( [إبراهيم : 22] وفي هذا النص يؤكد القرآن على استخدام المفارقة كوسيلة بلاغية تكشف أسرار الغيب، وتعبر عن حقيقة الشيطان وغوايته، ’’وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علما بكل ما سيحل بهم، وإيقاظا لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينة واضحة .

هذا، ولم تقتصر المفارقة التصويرية في النص القرآني على مجرد إبراز الجانب الجمالي فحسب، عبر إبراز التناقض بين طرفين كان يفترض فيهما التوافق والائتلاف، لا التنافر والاختلاف، بل استخدمت المفارقة كأداة بلاغية ووسيلة بيانية تؤدي وظيفة دلالية، من خلال إيضاح فكرة أو تأكيد معنى، مما يضفي على النص القرآني مزيدا من حيوية التعبير.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

على درب الحياة -الهرم المصرى نيوز

======== قصيده =======

أراك بعيوني كتبت الشاعرة / أسماء الزغبى - مجلة الاهرام الادبية نيوز